تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 259 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 259

259 : تفسير الصفحة رقم 259 من القرآن الكريم

** أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ * تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ومثل كلمة طيبة} شهادة أن لا إله إلا الله {كشجرة طيبة} وهو المؤمن, {أصلها ثابت} يقول: لا إله إلا الله في قلب المؤمن, {وفرعها في السماء} يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء, وهكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد: إن ذلك عبارة عن عمل المؤمن, وقوله الطيب, وعمله الصالح, وإن المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت وصباح ومساء, وهكذا رواه السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: هي النخلة, وشعبة عن معاوية بن قرة عن أنس: هي النخلة. وحماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع بسر فقرأ {ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة} قال: هي النخلة, وروي من هذا الوجه ومن غيره عن أنس موقوفاً, وكذا نص عليه مسروق ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وغيرهم.
وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة, عن عبيد الله عن نافع, عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أخبروني عن شجرة تشبه ـ أو ـ كالرجل المسلم لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء, وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة, ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان, فكرهت أن أتكلم, فلما لم يقولوا شيئاً, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة», فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه, والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. قال: ما منعك أن تتكلم ؟ قلت: لم أركم تتكلمون, فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً, قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا.
وقال أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار, فقال: «من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم» فأردت أن أقول هي النخلة, فنظرت فإذا أنا أصغر القوم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة», أخرجاه. وقال مالك وعبد العزيز عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: «إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها مثل المؤمن». قال: فوقع في شجر الوادي, ووقع في قلبي أنها النخلة, فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة», أخرجاه أيضاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا أبان يعني ابن زيد العطار, حدثنا قتادة أن رجلاً قال: يا رسول الله, ذهب أهل الدثور بالأجور, فقال: «أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا فركب بعضه على بعض أكان يبلغ السماء, أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء ؟» قال: ما هو يا رسول الله ؟ قال: «تقول لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله, عشر مرات في دبر كل صلاة, فذاك أصله في الأرض وفرعه في السماء». وعن ابن عباس {كشجرة طيبة} قال: هي شجرة في الجنة. وقوله: {تؤتي أكلها كل حين} قيل: غدوة وعشياً, وقيل: كل شهر. وقيل: كل شهرين. وقيل: كل ستة أشهر. وقيل: كل سبعة أشهر. وقيل: كل سنة, والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار, كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين {بإذن ربه} أي كاملاً حسناً كثيراً طيباً مباركاً {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}.
وقوله تعالى: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات, مشبه بشجرة الحنظل, ويقال لها الشريان, رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك: أنها شجرة الحنظل وقال أبو بكر البزار الحافظ: حدثنا يحيى بن محمد السكن, حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع, حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس أحسبه رفعه, قال {ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة} قال: هي النخلة, {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} قال: هي الشريان, ثم رواه عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة, عن معاوية عن أنس موقوفاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد هو ابن سلمة عن شعيب بن الحبحاب, عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «{ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} هي الحنظلة» فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: هكذا كنا نسمع. ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به.
ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من هذا فقال: حدثنا غسان عن حماد عن شعيب, عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع عليه بسر, فقال: {ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربه} فقال «هي النخلة» {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} قال: «هي الحنظل» قال شعيب: فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: كذلك كنا نسمع. وقوله: {اجتثت} أي استؤصلت {من فوق الأرض ما لها من قرار} أي لا أصل لها ولا ثبات, كذلك الكفر لا أصل له ولافرع, ولا يصعد للكافر عمل, ولا يتقبل منه شيء.

** يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَآءُ
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة}» ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار, فانتهينا إلى القبر ولما يلحد, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير, وفي يده عود ينكت به الأرض, فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثاً, ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاَخرة, نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال ـ: فتخرج تسيل, كما تسيل القطرة من في السقاء, فيأخذها, فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط, ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها, يعني على ملأ من الملائكة, إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له, فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها, حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة, فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض, فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم, ومنها أخرجهم تارة أخرى قال: فتعاد روحه في جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام, فيقولان له: ما هذا الرجل الذين بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله, فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت, فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة ـ قال ـ: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه, حسن الثياب, طيب الريح, فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير ؟ فيقول: أنا عملك الصالح, فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة, حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ قال ـ: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاَخرة, نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح, فجلسوا منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الخبيثة, اخرجي إلى سخط من الله وغضب ـ قال ـ: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول, فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح, فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا, فيستفتح له فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً ـ ثم قرأ {ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار, فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه, ويأتيه رجل قبيح الوجه, قبيح الثياب, منتن الريح, فيقول: أبشر بالذي يسوؤك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول: ومن أنت, فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث, فيقول: رب لا تقم الساعة» ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو به.)وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن يونس بن حبيب عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة, فذكر نحوه, وفيه «فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء, وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج بروحه من قبلهم», وفي آخره «ثم يقيض له أعمى أصم أبكم, وفي يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان تراباً, فيضربه ضربة فيصير تراباً, ثم يعيده الله عز وجل كما كان, فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين» قال البراء: ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار, وقال سفيان الثوري عن أبيه, عن خيثمة عن البراء في قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} قال عذاب القبر.
وقال المسعودي عن عبد الله بن مخارق عن أبيه عن عبد الله قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له: ما ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ فيثبته الله فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم, وقرأ عبد الله {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} وقال الإمام عبد بن حميد رحمه الله في مسنده حدثنا يونس بن محمد, حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة, حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره, وتولى عنه أصحابه, وإنه ليسمع قرع نعالهم, فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله, قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة», قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيراهما جميعاً», قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً, ويملأ عليه خضراً إلى يوم القيامة, رواه مسلم عن عبد بن حميد, وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه, جاءه ملك شديد الانتهار, فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده, فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة, فيراهما كليهما, فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي فيقال له: اسكن, وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول: لا أدري, أقول كما يقول الناس, فيقال له: لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة قد أبدلت مكانه مقعدك من النار» قال جابر: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يبعث كل عبد في القبر على ما مات, المؤمن على إيمانه, والمنافق على نفاقه» إسناده صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري, قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه, جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده, فقال: ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, فيقول له: صدقت ثم يفتح له باباً إلى النار, فيقول: كان هذا منزلك لو كفرت بربك, فأما إذ آمنت فهذا منزلك, فيفتح له باباً إلى الجنة, فيريد أن ينهض إليه فيقول له: اسكن ويفسح له في قبره, وإن كان كافراً أو منافقاً فيقول له: ما تقول في هذا الرجل ؟ فيول: لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئاً, فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت, ثم يفتح له باباً إلى الجنة, فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك, فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا, فيفتح له باباً إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق, فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين, فقال بعض القوم: يا رسول الله, ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} وهذا أيضاً إسناد لا بأس به, فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقروناً, ولكن ضعفه بعضهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد عن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت تحضره الملائكة, فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال فلا يزال يقال لها ذلك, حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان, فيقولون: مرحباً بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب, ادخلي حميدة, وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق, وآخر من شكله أزواج, فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج, ثم يعرج بها إلى السماء, فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان, فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء, فيرسل من السماء ثم يصير إلى القبر, فيجلس الرجل الصالح, فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول, ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول. ورواه النسائي وابن ماجه من طريق ابن أبي ذئب بنحوه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إِذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها. قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك ـ قال ـ: ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه, فينطلق به إلى ربه عز وجل, فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل. وإن الكافر إذا خرجت روحه ـ قال حماد ـ وذكر من نتنها, وذكر مقتاً, ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض, فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل ـ قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا.
وقال ابن حبان في صحيحه: حدثنا عمر بن محمد الهمداني, حدثنا زيد بن أخرم, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن قتادة, عن قسام بن زهير, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن المؤمن إذا قبض, أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء, فيقولون: اخرجي إلى روح الله, فتخرج كأطيب ريح مسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً يشمونه حتى يأتوا به باب السماء, فيقولون: ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض, ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين, فلهم أشد فرحاً به من أهل الغائب بغائبهم, فيقولون: ما فعل فلان ؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم, فيقول: قد مات أما أتاكم ؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية, وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله, فتخرج كأنتن ريح جيفة, فيذهب به إلى باب الأرض».
وقد روي أيضاً من طريق همام بن يحيي عن أبي الجوزاء, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, قال «فيسأل: ما فعل فلان, ما فعل فلان, ما فعلت فلانة ؟ قال: وأما الكافر فإذا قبضت نفسه, وذهب بها إلى باب الأرض, تقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه, فيبلغ بها الأرض السفلى». قال قتادة وحدثني رجل عن سعيد بن المسيب, عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية, وأرواح الكفار تجتمع ببرهوت سبخة بحضرموت, ثم يضيق عليه قبره. وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حدثنا يحيى بن خلف, حدثنا بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا قبر الميت ـ أو قال: أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان, يقال لأحدهما منكر والاَخر نكير, فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول: ما كان يقول هو عبد الله ورسوله, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا, ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين, وينور له فيه, ثم يقال له: نم, فيقول: أرجع الى أهلي فأخبرهم, فيقولان: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك, وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون: فقلت مثلهم لا أدري, فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا, فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه, فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة لدنيا وفي الاَخرة} ـ قال ـ : ذلك إِذا قيل له في القبر من ربك, وما دينك, ومن نبيك ؟ فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله, فآمنت به وصدقت, فيقال له: صدقت, على هذا عشت, وعليه مت, وعليه تبعث».وقال ابن جرير: حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد, قالا: حدثنا يزيد, أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده, إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين, فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه, فيؤتى من قبل رأسه, فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل, فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل, فيؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخل, فيؤتى عند رجليه فيقول: فعل الخيرات ما قبلي مدخل, فيقال له: اجلس, فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب, فيقال له: أخبرنا عما نسألك, فيقول: دعني حتى أصلي, فيقال له: إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك, فيقول: وعم تسألوني ؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول به, وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول: أمحمد ؟ فيقال له: نعم, فيقول: أشهد أنه رسول الله, وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه, فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت, وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه, ويفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى ما أعد الله لك فيها, فيزداد غبطة وسروراً, ثم تجعل نسمته في النسم الطيب, وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة, ويعاد الجسد إلى ما بدىء من التراب», وذلك قول الله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة}, رواه ابن حبان من طريق المعتمر بن سليمان عن محمد بن عمر, وذكر جواب الكافر وعذابه.
وقال البزار: حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي, حدثنا الوليد بن القاسم, حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم, عن أبي هريرة أحسبه رفعه, قال: «إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين, فيود لو خرجت, يعني نفسه, والله يحب لقاءه وإن المؤمن يصعد بروحه الى السماء, فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض, فإِذا قال: تركت فلاناً في الأرض, أعجبهم ذلك, وإِذا قال: إِن فلاناً قد مات, قالوا: ما جيء به إلينا, وإن المؤمن يجلس في قبره فيسأل, من ربك ؟ فيقول: ربي الله, ويسأل: من نبيك ؟ فيقول: محمد نبيي, فيقال: ماذا دينك ؟ قال: ديني الإسلام, فيفتح له باب في قبره فيقول ـ أو يقال ـ انظر إلى مجلسك, ثم يرى القبر فكأنما كانت رقدة, وإذا كان عدو الله نزل به الموت وعاين ما عاين, فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبداً, والله يبغض لقاءه, فإذا جلس في قبره أو أجلس, فيقال له: من ربك ؟ فيقول: لا أدري, فيقال: لا دريت, فيفتح له باب إلى جهنم ثم يضرب ضربة تسمعها كل دابة إلا الثقلين, ثم يقال له: نم كما ينام المنهوش». قلت لأبي هريرة: ما المنهوش ؟ قال: الذي تنهشه الدواب والحيات, ثم يضيق عليه قبره, ثم قال: لا نعلم من رواه إلا الوليد بن القاسم.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا حجين بن المثنى, حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن المنكدر قال: كانت أسماء, يعني بنت الصديق رضي الله عنها, تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال: «إذا دخل الإنسان قبره, فإن كان مؤمناً أحف به عمله الصلاة والصيام, قال: فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ومن نحو الصيام فيرده, قال: فيناديه اجلس فيجلس, فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل, يعني النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: من ؟ قال: محمد, قال: أشهد أنه رسول الله, قال: وما يدريك, أدركته ؟ قال: اشهد أنه رسول الله, قال: يقول على ذلك عشت, وعليه مت, وعليه تبعث وإن كان فاجراً أو كافراً جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يرده فأجلسه, فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل ؟ قال: أي رجل ؟ قال: محمد ؟ قال: يقول: والله ما أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته, قال له الملك: على ذلك عشت, وعليه مت, وعليه تبعث, قال ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط, ثمرته جمرة مثل غرب البعير, تضربه ما شاء الله, صماء لا تسمع صوته فترحمه».
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاَية قال: إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة, فسلموا عليه وبشروه بالجنة, فإذا مات مشوا مع جنازته ثم صلوا عليه مع الناس, فإِذا دفن أجلس في قبره, فيقال له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله, فيقال له: من رسولك ؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم, فيقال له: ما شهادتك ؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً رسول الله, فيوسع له في قبره مد بصره, وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم, والبسط هو الضرب, {يضربون وجوههم وأدبارهم} عند الموت, فإذا أدخل قبره أقعد, فقيل له: من ربك ؟ فلم يرجع إليهم شيئاً, وأنساه الله ذكر ذلك, وإذا قيل: من الرسول الذي بعث إليك ؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً {كذلك يضل الله الظالمين}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي حدثنا شريح بن مسلمة, حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق, عن عامر بن سعد البجلي عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة} الاَية, قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره, فيقال له: من ربك ؟ فيقول: الله, فيقال له: من نبيك ؟ فيقول: محمد بن عبد الله, فيقال له ذلك مرات, ثم يفتح له باب إلى النار, فيقال له: انظر إلى منزلك من النار لو زغت, ثم يفتح له باب إلى الجنة, فيقال له: انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت, وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له: من ربك ؟ من نبيك ؟ فيقول: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون, فيقال له: لا دريت, ثم يفتح له باب إلى الجنة, فيقال له: انظر إلى منزلك إذا ثبت, ثم يفتح له باب إلى النار, فيقال له: انظر إلى منزلك إِذ زغت, فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة}.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس, عن أبيه {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدني} قال: لا إله إلا الله, {وفي الاَخرة} المسألة في القبر, وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح, {وفي الاَخرة} في القبر وكذا روي عن غير واحد من السلف. وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي فديك عن عبدالرحمن بن عبد الله عن سعيد بن المسيب, عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة, فقال: «إني رأيت البارحة عجباً, رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه, فجاءه بره بوالديه, فرد عنه, ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر, فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك, ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين, فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم, ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب, فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم, ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه, فجاءه صيامه فسقاه وأرواه, ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون قعود حلقاً حلقاً, كلما دنا لحلقة طردوه, فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي, ورأيت رجلاً من أمتي بين يديه ظلمة, ومن خلفه ظلمة, وعن يمينه ظلمة, وعن شماله ظلمة, ومن فوقه ظلمة, ومن تحته ظلمة, وهو متحير فيها, فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور, ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه, فجاءته صلة الرحم فقالت: يا معشر المؤمنين, كلموه فكلموه, ورأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه, فجاءته صدقته فصارت له ستراً على وجهه وظلاً على رأسه, ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان, فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة, ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب, فجاءه حسن خلقه, فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل, ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله, فجاءه خوفه من الله, فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه, ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه, فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه, ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم, فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى, ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا, فاستخرجته من النار, ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يزحف أحياناً ويحبو أحياناً, فجاءته صلاته عليّ, فأخذت بيده, فأقامته ومضى على الصراط, ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى باب الجنة, فغلقت الأبواب دونه, فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة», قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه: هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالاً خاصة تنجي من أهوال خاصة, أورده هكذا في كتابة التذكرة.
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثاً غريباً مطولاً فقال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم النكري, حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان, حدثنا أبو عاصم الحبطي, وكان من أخيار أهل البصرة, وكان من أصحاب حزم, وسلام بن أبي مطيع, حدثنا بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو, عن يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك عن تميم الداري, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل لملك الموت: انطلق إلى وليي فأتني به, فإِني قد ضربته بالسراء والضراء, فوجدته حيث أحب, ائتني به فلأريحنه, فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة, ومعهم ضبائر الريحان أصل الريحانة واحد, وفي رأسها عشرون لوناً لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه, ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر, فيجلس ملك الموت عند رأسه وتحف به الملائكة, ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه, ويبسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه, ويفتح له باب إلى الجنة, فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة تارة بأزواجها, وتارة بكسوتها, ومرة بثمارها كما يعلل الصبي أهله إذا بكى, قال: إِن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشاً, قال: وتبرز الروح, قال البرساني: يريد أن تخرج من العجل إلى ما تحب, قال: ويقول ملك الموت, اخرجي يا أيتها الروح الطيبة إلى سدر مخضود, وطلح منضود, وظل ممدود, وماء مسكوب, قال: ولملك الموت أشد به لطفاً من الوالدة بولدها, يعرف أن تلك الروح حبيب لربه, فهو يتلمس بلطفه تحبباً لديه, رضاء للرب عنه, فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين, قال: وقال الله عز وجل: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين}, وقال: {فأما إن كان من المقّربين فروح وريحان وجنة نعيم} قال: روح من جهة الموت, وريحان يتلقى به, وجنة نعيم تقابله, قال: فإذا قبض ملك الموت روحه, قالت الروح للجسد: جزاك الله عني خيراً, فقد كنت سريعاً بي إلى طاعة الله, بطيئاً بي عن معصية الله, فقد نجيت وأنجيت, قال: ويقول الجسد للروح مثل ذلك, قال: وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها, وكل باب من السماء يصعد منه عمله وينزل منه رزقه أربعين ليلة, قال: فإذا قبض ملك الموت روحه, أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده, فلا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم, وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم, وحنوط قبل حنوط بني آدم, ويقوم من باب بيته إلى قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار, فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع منها عظام جسده, قال: ويقول لجنوده: الويل لكم كيف خلص هذا العبد منكم ؟ فيقولون: إن هذا كان عبداً معصوماً, قال: فإذا صعد ملك الموت بروحه يستقبله جبريل في سبعين ألفاً من الملائكة, كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه, قال: فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش, خر الروح ساجداً, قال: يقول الله عز وجل لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود, وطلح منضود وظل ممدود, وماء مسكوب, قال: فإذا وضع في قبره جاءته الصلاة فكانت عن يمينه, وجاءه الصيام فكان عن يساره, وجاءه القرآن فكان عند رأسه, وجاءه مشيه الى الصلاة فكان عند رجليه, وجاءه الصبر فكان ناحية القبر, قال: فيبعث الله عز وجل عنقاً من العذاب, قالوا: فيأتيه عن يمينه, قال: فتقول الصلاة وراءك: والله ما زال دائباً عمره كله وإنما استراح الاَن حين وضع في قبره قال: فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك, قال: ثم يأتيه من عند رأسه فيقول القرآن والذكر مثل ذلك قال: ثم يأتيه من عند رجليه فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك, فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد إليه مساغاً إلا وجد ولي الله قد أخذ جنته, قال: فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج, قال: ويقول الصبر لسائر الأعمال أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي, إلا أني نظرت ما عندكم فإن عجزتم كنت أنا صاحبه, فأما إذا أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان, قال: ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف, وأصواتهما كالرعد القاصف, وأنيابهما كالصياصي, وأنفاسهما كاللهب, يطآن في أشعارهما بين منكب كل واحد مسيرة كذا وكذا, وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة, يقال لهما منكر ونكير, في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها, قال: فيقولان له: اجلس, قال: فيجلس فيستوي جالساً, قال: وتقع أكفانه في حقويه, قال: فيقولان له: من ربك, ومادينك, ومن نبيك ؟ قال قالوا: يا رسول الله ومن يطيق الكلام عند ذلك وأنت تصف من الملكين ما تصف ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة * ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} قال فيقول: ربي الله وحده لا شريك له, وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة, ونبيي محمد خاتم النبيين, قال: فيقولان له: صدقت, قال: فيدفعان القبر فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعاً, وعن يمينه أربعين ذراعاً, وعن شماله أربعين ذراعاً, ومن عند رأسه أربعين ذراعاً, ومن عند رجليه أربعين ذراعاً, قال: فيوسعان له مائتي ذراع, قال البرساني: فأحسبه وأربعين ذراعاً تحاط به, قال: ثم يقولان له: انظر فوقك, فإذا باب مفتوح إلى الجنة, قال فيقولان له: ولي الله هذا منزلك إذ أطعت الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده, إنه يصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبداً» ثم يقال له: انظر تحتك, قال: فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ قال ـ فيقولان: ولي الله نجوت آخر ما عليك ـ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبداً» قال: قالت عائشة: يفتح له سبعة وسبعون باباً إلى الجنة, يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله عز وجل.
وبالإسناد المتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ويقول الله تعالى لملك الموت: انطلق إلى عدوي فأتني به, فإني قد بسطت له رزقي, ويسرت له نعمتي, فأبى إلا معصيتي فأتني به, لأنتقم منه, قال: فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة رآها أحد من الناس قط, له ثنتا عشر عيناً, ومعه سفود من النار, كثير الشوك ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نحاس وجمر من جمر جهنم, ومعهم سياط من نار لينهالين السياط, وهي نار تأجج, قال: فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيب كل أصل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق وظفر, قال: ثم يلويه لياً شديداً, قال: فينزع روحه من أظفار قدميه, قال: فيلقيها في عقبيه. قال: فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه, قال: وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط, قال: فيشده ملك الموت شدة فينزع روحه من عقبيه فيلقيها في ركبتيه, ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه, قال: فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط, قال: فيشده ملك الموت شدّة فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه, فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه, قال: فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط, قال كذلك: إلى صدره ثم كذلك إلى حلقه, قال: ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه, قال: ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح اللعينة إلى سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ـ قال: فإذا قبض ملك الموت روحه, قال الروح للجسد: جزاك الله عني شراً فقد كنت سريعاً بي إلى معصية الله, بطيئاً بي عن طاعة الله, فقد هلكت وأهلكت ـ قال ـ ويقول الجسد للروح مثل ذلك, وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها, وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبداً من ولد آدم النار, قال: فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه حتى تدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى, قال: ويبعث الله إليه أفاعي دهماً كأعناق الإبل, يأخذن بأرنبته وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في وسطه, قال: ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف, وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا, قد نزعت منهما الرأفة والرحمة, يقال لهما منكر ونكير, في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها, قال فيقولان له اجلس فيستوي جالساً وتقع أكفانه في حقويه, قال فيقولان له: من ربك, وما دينك, ومن نبيك ؟ فيقول: لا أدري, فيقولان له: لا دريت ولا تليت, فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره ثم يعودان, قال: فيقولان: انظر فوقك فينظر, فإذا باب مفتوح من الجنة, فيقولان: عدو الله هذا منزلك لو أطعت الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبداً». ـ قال ـ ويقولان له: انظر تحتك فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ فيقولان له: عدو الله هذا منزلك إذ عصيت الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبداً» قال: وقالت عائشة: ويفتح له سبعة وسبعون باباً إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه الله إليها. هذا حديث غريب جداً, وسياق عجيب, ويزيد الرقاشي راويه عن أنس له غرائب ومنكرات, وهو ضعيف الرواية عند الأئمة, والله أعلم, ولهذا قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي, حدثنا هشام هو ابن يوسف عن عبد الله بن بحير عن هانى مولى عثمان, عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الاَن يسأل» تفرد به أبو داود, وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه عند قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم} الاَية, حديثاً مطولاً جداً من طرق غريبة عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً, وفيه غرائب أيضاً.

** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ للّهِ أَندَاداً لّيُضِلّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتّعُواْ فَإِنّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ
قال البخاري: قوله {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفر} ألم تعلم, كقوله: {ألم تر كيف} {ألم تر إلى الذين خرجو} البوار الهلاك, بار يبور بوراً, {وقوماً بور} هالكين. حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء. سمع ابن عباس {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفر} قال: هم كفار أهل مكة, وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية, هو جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم, والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول: وإن كان المعنى يعم جميع الكفار, فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس, فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة, ومن ردها وكفرها دخل النار, وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة, عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياً عن {الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} قال: هم كفار قريش يوم بدر, حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا بسام هو الصيرفي عن أبي الطفيل قال: جاء رجل إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين من الذين بدلوا نعمة الله كفراً, وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال: منافقو قريش وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على معقل عن ابن أبي حسين قال: قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحد يسألني عن القرآن, فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته, فقام عبد الله بن الكواء فقال: من الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال: مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان فبدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
وقال السدي في قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفر} الاَية, ذكر مسلم المستوفى, عن علي أنه قال: هم الأفجران من قريش: بنو أمية وبنو المغيرة, فأما بنو المغيرة, فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر, وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد, وكان أبو جهل يوم بدر, وأبو سفيان يوم أحد, وأما دار البوار فهي جهنم.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا الحارث أبو منصور, عن إسرائيل عن أبي إسحاق, عن عمرو بن مرة قالا: سمعت علياً قرأ هذه الاَية {وأحلوا قومهم دار البوار} قال: هم الأفجران من قريش: بنو أمية, وبنو المغيرة, فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر, وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين, ورواه أبو إسحاق عن عمرو بن مرة عن علي, نحوه, وروي من غير وجه عنه. وقال سفيان الثوري عن علي بن زيد عن يوسف بن سعد, عن عمر بن الخطاب في قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفر} قال: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة, وبنو أمية, فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر, وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين, وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال: قال ابن عباس لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين هذه الاَية {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} ؟ قال: هم الأفجران من قريش: أخوالي وأعمامك, فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر, وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين, وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر, وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر.
وقوله: {وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله} أي جعلوا له شركاء عبدوهم معه, ودعوا الناس إلى ذلك, ثم قال تعالى مهدداً لهم ومتوعداً لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا, فمهما يكن من شيء {فإن مصيركم إلى النار} أي مرجعكم وموئلكم إلينا كما قال تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}, وقال تعالى: {متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}.

** قُل لّعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ
يقول تعالى آمراً عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة, وهي عبادة الله وحده لا شريك له, وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب, والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها, وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر أي في الخفية والعلانية وهي الجهر, وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم {من قبل أن يأتي يوم} وهو يوم القيامة {لابيع فيه ولا وخلال} أي ولا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه, كما قال تعالى: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفرو} وقوله: {ولا خلال} قال ابن جرير: يقول ليس هناك مخالة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته, بل هناك العدل والقسط, والخلال مصدر من قول القائل: خاللت فلاناً فأنا أخاله مخالة وخلالاً, ومنه قول امرىء القيس:
رفت الهوى عنهن من خشية الردى
ولست بمقل للخلال ولا قالي
وقال قتادة: إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعاً وخلالاً يتخالون بها في الدنيا, فينظر رجل من يخالل وعلام يصاحب, فإن كان لله فليداوم, وإن كان لغير الله فسيقطع عنه, قلت: والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحداً بيع ولا فدية, ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده, ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافراً, قال الله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون}.

** اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ * وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ
يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السموات سقفاً محفوظاً والأرض فرشاً {وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع. وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى, وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك, وما هناك إلى هنا, وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقاً للعباد من شرب وسقي, وغير ذلك من أنواع المنافع {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر, تبارك الله رب العالمين} فالشمس والقمر يتعاقبان, والليل والنهار يتعارضان, فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول, ثم يأخذ الاَخر من هذا فيقصر {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار}.
وقوله {وآتاكم من كل ما سألتموه} يقول هيأ لكم ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم. وقال بعض السلف: من كل ما سألتموه وما لم تسألوه, وقرأ بعضهم {وآتاكم من كل ما سألتموه} وقوله {وإن تعدوانعمة الله لا تحصوه} يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها, كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد, وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد, ولكن أصبحوا تائبين. وأمسوا تائبين, وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا».
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث, حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي, عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح, وديوان فيه ذنوبه, وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه, فيقول الله تعالى لأصغر نعمه ـ أحسبه قال في ديوان النعم ـ خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله, ثم تنحى وتقول: وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم, فإذا أراد الله أن يرحمه قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت لك عن سيئاتك ـ أحسبه قال: ووهبت لك نعمي ـ» غريب وسنده ضعيف. وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ ؟ فقال الله تعالى: الاَن شكرتني يا داود, أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم, وقال الإمام الشافعي رحمه الله: الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها, وقال القائل في ذلك:
لو كل جارحة مني لها لغةتثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت بهإليك أبلغ في الإحسان والمنن